19 يوليو 2020

رعب أوزو : من ذكريات الخدمة العسكرية

يرويها أحمد
كان ذلك أيام سنوات الشباب المبكرة في نهاية ديسمبر من عام 1992، اثناء الخدمة العسكرية الإلزامية لسنتين، والملزم بها كل خريج حديث التخرج، حيث تم توجيه كتيبتي المتخصصة في الدفاع الجوي- مضادات الطيران ، لمنطقة (أوزو)  على الشريط الحدودي الليبي مع الجارة الجنوبية جمهورية تشاد، وهو شريط مقفر موحش أيما وحشة، تنازعت ليبيا وتشاد حق ملكيته فكان مسرحا لمعارك دامية قتل فيها الكثير من الجنود من الجانبين، و تناثرت فيه اجساد القتلى وسط رماله، دونما دفن في كثير من الأحيان مما جعله مكانا يشعر فيه المرء بوحشة شديدة و إنقباض في القلب، مهما بلغت شجاعته و إقدامه، خاصة بعد الغروب.

وبعد سنوات حرب طويلة قامت هدنة بين ليبيا وتشاد تمركزت فيها قوات البلدين كلا على جانب من جانبي الشريط، شماله وجنوبه بعد وصولنا بالطائرة العسكرية الضخمة من طراز "يوشن " ، وتقسيمنا لمواقع مترامية الأطراف يبعد بعضها عن بعض كيلومترات عديدة في مناطق محاطة بحقول ألغام وأسلاك شائكة، يتشكل كل موقع من كوخين أو ثلاثة أكواخ من الصفيح، يتم تغطيتها بقطع مهترئة من ممزق الخيام العسكرية فوقها شبكة بغرض التمويه العسكرية دونما إنارة كهربائية أو ماء جار، إلا من صهريج مياه متنقل يتم ملؤه بواسطة سيارة نقل مياه تأتي للموقع مرة كل أسبوعين مع التموين الجاف للجنود. 

كنا عشرة جنود في موقع منعزل من كوخين، يبعد أحدهما عن الآخر حوالي مائة متر ويحيطه من الجهة الغربية حقل ألغام تطوقه أسلاك شائكة، فيما تمتد الصحراء الرملية من الجهة الشرقية لعدة كيلومترات...و ينتصب على قمة تلة قريبة محاذية لكل كوخ مدفع مضاد للطيران من عيار 23 ملم. وصلنا للموقع ووجدنا بضع جنود سابقين من الدفعة التي تسبقنا، تم تكليفهم بالبقاء لأيام معنا ليعلمونا أساليب التعامل المسلح مع أي إختراق محتمل للمنطقة من قبل الجنود التشاديين وقواعد الإشتباك العسكري ونحوها. وبعد إستلامنا لأسلحتنا الشخصية وذخيرتها، وجولة في الموقع، خلدنا للنوم بعد توزيع مهام نوبات الحراسة الليلية..بعد أن شرع أحدهم بالآذان وصلينا جماعة. بعد مضي يومين جاء موعد رحيل الجنود السابقين وعودتهم لطرابلس، وقبل رحيلهم أخبرونا ضرورة ألا ننسى الآذان امام كوخينا عند كل مغيب، وضرورة المحافظة على الصلوات جماعة، و عدم الإنزعاج فيما لو " خُيل إلينا " سماع أصوات ليلية أو رؤية أضواء سيارات قادمة لموقعنا من جهة حقول الألغام المسيجة، ما اثار دهشتنا وإستغرابنا، لكنهم بسطوا لنا الأمر أن الأمر له علاقة بطبيعة المنطقة وتضاريسها ومناخها الذي لم نعتد عليه. وقاموا بكتابة آية الكرسي في وريقة متوسطة ألصقوها بالباب المهتريء غير محكم الإغلاق لكوخنا الأشد إهتراء، فشكرناهم على صنيعهم دون أن نفكر فيما وراءه. 

وبعد رحيلهم بليلة، وبعد تناولنا لعشاء بسيط أعقب دردشة على ضوء الفتيل المصنوع من خرقة قماش خيمة تم غمسها في زيت محركات شاحنة، تكاسلنا كشأن المجندين من الشباب عن توزيع مهام نوبات الحراسة في ذلك الموقع الشديد الإنعزال والبعيد عن مواقع الضباط.. في تلك الليلة شديدة البرودة ، و وكلنا أمر الحراسة للكلاب " أكرمكم الله " التي كان يربيها الجنود السابقين جاعلين من نباحها علامة تنبيه لنا إن رأت سيارة الضابط تتجه نحونا من على بعد. ويا لسوء ما صنعنا !! كنت نائماً في كوخنا المستطيل الشكل والذي ينام فيه كل منا بشكل طولي، بجانب ضلع من أضلاعه، بحيث يكون رأس كل جندي منا ملاصقا لقدمي الجندي الذي يليه، فيما يبقى وسط الكوخ فارغا، لتسهيل الحركة ليلا، وبعد مضي ساعات قليلة على نومنا، أيقظني صوت رفاقي وهم يرتدون معاطفهم ويتمنطقون أسلحتهم ويهمون بالخروج من الكوخ، بعد إشعالهم للفتيلة، فسألتهم عما يجري فقالوا أنهم سمعوا صوت خطوات مشي حول الكوخ مع نباح غريب للكلاب ، ثم جهزوا أسلحتهم في وضع الرماية وخرجوا دون أن ينتظروني، وفيما كنت أجهز نفسي وسلاحي و أرتدي حذائي ومعطفي للحاق بهم، كنت اسمع همسهم وهم يدورون حول الكوخ لإستقصاء أي أثر محتمل لذلك المتسلل على الرمال المحيطة بالكوخ، ثم عادوا للكوخ في اللحظة التي كنت أهم فيها بالخروج، فمنعوني من الخروج قائلين أنهم لم يجدوا أي أثر، واقفلوا الباب ، ثم إنزوى كلا منهم في ركنه دون أن ينبس ببنت شفة وكأن على رؤوسهم الطير. حاولت طمأنتهم وتذكيرهم بنصيحة الجنود السابقين لنا بخصوص تأثير تضاريس المنطقة وجبالها ورياحها، وأنهم لا بد خُيل لهم ما قد سمعوا، فهزوا رؤوسهم ونصحوني بالعودة للنوم، وهذا ماصنعته حقاً، بعد إطفاء الفتيل. ظللت نائماً لفترة لا أدري طولها، وفيما كنت أتقلب على جانبي ، سمعت ، لأول مرة في تلك الليلة المرعبة، صوت مشي غريب يمر في الجانب الخارجي لجدار الكوخ الصفيحي الذي انام قربه، ويا لهول ما سمعت !! كان صوتاً لا يشبه صوت المشي المعتاد على الرمال او الحصى، بل أقرب ما يكون للصوت الصادر من لابس خف الحمام المبتل وهو يصدر صوتا أشبه بالزقزقة، وكان يلف حول الكوخ حتى يصل لبابه الغير محكم الإغلاق ليقف عنده، ثم يعاود دورانه حول الكوخ ليمر بجانب اللوح الصفيحي الذي يفصلني عنه..وهكذا. عندها، و وسط ظلام الكوخ الحالك، إنتابني رعب لم أشعر به يوما في حياتي، و رغم أن رفاقي يعدونني من أشجعهم، لكنني والحق يقال، كدت أصاب بالشلل كلما مر ذلك الماشي بصوت خفه الغريب على الجانب الخارجي من لوح الصفيح الذي يفصل بيني وبينه، وما كان خوفي إلا لإدراكي، متأخراً، أن هذا الماشي الذي لم يجد له رفاقي أثراً على الرمل المحيط بكوخنا، لا يمكن أن يكون متسللاً تشادياً او من الهنود الحمر، و محال أن يكون من بني البشر عامة، بل من خلق آخر، جعل جنود الموقع السابقين يحصنون باب المدخل بآية الكرسي. بدأ العرق ينز من جبيني رغم شدة البرد، وحاولت الكلام لإيقاظ رفاقي النائمين، فلم يطاوعني لساني على النطق من شدة الرعب، و باتت دقات قلبي كطبل أفريقي، فما كان مني إلا مد يد مرتعشة من تحت اللحاف، أهز بها قدم رفيقي (صلاح) الملاصقة لرأسي، فلم يستجب. أعدت هزها مرات ومرات، لكن دون أي استجابة منه، وكأنه صار من الأموات، فما كان مني من شدة خوفي أن أبقى وحدي من يستمع لهذا الجني في نزهته الليلية، إلا أن أستبدل الهز بالقرص، أقرص به أصابع صلاح، مرة تلو المرة، لكنه يكتفي بإبعاد أصابعه دون أن ينبس ببنت شفة، فتغلب الغضب منه بداخلي على الخوف من الجني المتسكع، ونجحت في النطق بأول كلمات، عاتبت فيها صلاح قائلاً بصوت ضعيف مرتعش : " صلاح، لماذا لا تستجيب لي ؟ " ، فقال صلاح بصوت أكثر إرتعاشاً : " أهذا أنت الذي تهزني وتقرصني منذ لحظات، قبحك الله، لقد أرعبتني، لقد ظننتها عبثاً ممن يمشي في الخارج وقد نجح في التسلل للكوخ !! "  عندها تحرك باقي رفاقي، والذين ظننتهم نائمين، فأشعلوا الفتيلة، وقالوا أنهم لم يناموا مذ سمعوا الصوت في المرة الأولى وخرجوا للبحث فلم يجدوا شيئاً، و أيقنوا عندها أن ضيفنا الزائر ليس من تشاد ولا من ساحل العاج، بل ممن يروننا ولا نراهم. فقمت عندها وقد زال عني الشلل وعادت لي شجاعتي الهاربة، مستأنساً برفاقي و ضوء الفتيل بالأذان بصوت عال جداً ، لا يدانيني فيه أي مكبر للصوت، اعقبه تلاوة لآية الكرسي و خواتم سورة البقرة والمعوذات، وما لبث الصوت أن انقطع، بعد أن كادت أنفاسنا تتقطع. تعلمنا من هذه الزيارة الترحيبية المبكرة لجيراننا من الجن ألا ننسى الأذان عند كل مغيب، وعندما يطول غيابهم وننسى بهذا الغياب ان نصدح بأذاننا، تنبهنا زيارات مجددة لهم بذلك، فمرة نسمع مشي احدهم فوق سقف الكوخ ثم قفزه امام بابه، و مرة نسمع صوت إرتطام احدهم بأحد جدرانه، و مرات عديدة نسمع صوت قرع طبولهم يشتد ويخفت، حتى تعايشنا مع اصواتهم، وأعتدنا عليها فلم تعد تحرك فينا ساكناً، وبتنا كلما سمعنا طبولهم تقرع، نفتخ باب الكوخ ونصرخ بهم قائلين : " ألا تستحون أن تقيموا عرساً ولا تدعوننا إليه ؟!  " .

بقينا على هذا الحال قرابة العام، نسمع اصوات مشيهم وقفزهم وقرع طبولهم، ونرى أضواء تقترب من موقعنا نظنها أضواء سيارة الضابط في نوبة التفتيش، فلا تلبث، بعد إقترابها، أن تتلاشى. حتى جاءت ليلة قبيل انتهاء مهمتنا ومغادرتنا لطرابلس، حيث أبى جيراننا من الجن إلا ان يرسلوا لنا نائباً عنهم ليودعنا ، متجسداً في قط كالح السواد، دخل لكوخنا ونحن نهم بالنوم، ولم يكترث رغم محاولة إخافته بالتلويح له والصراخ عليه، ولم يخرج إلا بعد قراءة آية الكرسي، التي تلعثم بها لساني المرتعش رعباً، بعد أن إعتدنا على سماعهم دون رؤياهم، لكن ليس من رأى كمن سمع. وليس الخبر كالعيان... أندهش من نفسي أحياناً عندما تعود بي الذاكرة لتلك الحقبة وأحداثها وتلك الجيرة الغريبة معهم، وقد فرضنا انفسنا عليهم في ديارهم، ومشاكساتهم المسالمة لنا، وسط الظروف المعيشية الصعبة لشباب في مقتبل العمر حينها، فرض عليهم التواجد في بيئة يستوحش منها أعتى الرجال، رويت دمائها بدماء الجنود من الطرفين، فباتت اكثر وحشة لساكنيها، و أشد إقلاقاً لأرواحهم، مع صقلها لشخصياتهم بقسوتها وغرابة التجارب فيها وتنوعها بين خوف وفكاهة. أذكر تحديداً زيارة القط الأسود الوداعية لنا وهبوطه علينا من حيث لا نحتسب، و وقوعنا في حيص بيص لمرآه يقبع قرب باب كوخنا المهتريء، ونظراتنا المرتعبة لبعضنا البعض ونحن ندرك إستحالة قطع قط طبيعي لمسافات موحشة في الصحراء، فقط ليدخل كوخنا ويقبع امام عتبته. بدأت عندها في محاولة طرده بإستخدام الصوت " هش...هش..هش "، فلم تحرك هشهشتي هذه شعرة في جسد حضرته، فعمد أصحابي لإستخدام أصوات اخرى ظنا منهم أن قطط/ جن تلك المناطق تفهم تعابير مختلفة للطرد، فبات بعض الرفاق يصيح " بخ...بخ..." ، وبعضهم يطرق الجدار الصفيحي للكوخ مصدرا صوت " تك...تك..تك " ، فاختلط الحابل بالنابل عندنا وتألفت موسيقى بالغة الإزعاج من " هش هش بخ تك هش تك بخ تك تك "، فيما لم يزل ذلك القط رابضاً، يحملق فينا، ولسان حال الجني بداخله يقول : " ما بال هولاء الحمقى و أصواتهم الغريبة هذه، وما يظنون انهم فاعلين ؟ " ، ولربما لام نفسه على مجيئه لوداعنا.. و لو علم مبلغ رعبنا ونحن نهشهش ونبخبخ ونتكتك لإخافته دون جدوى، لأشفق علينا و لتهكم على شجاعتنا المزعومة الآنفة ونحن نسخر من أصواتهم و اضوائهم وطبولهم، لكن تلك الشجاعة تبخرت لحظة شكنا كون هذا القط تجسدا لأحدهم، وهو شك تحول ليقين بفرار هذا المتجسد عند سماعه لآية الكرسي، فتركنا وقد بلغ منا الفزع والرعب أي مبلغ، وبتنا ندعو الله أن يعجل بمغادرتنا قبل أن تتطور زياراتهم لنا وآنسهم بنا،فلا يكفيهم عندها إصدار أصوات و إرسال قطط، بل قد يتعدى كرمهم معنا أطواراً لا نحتملها ويتخذ تجسدهم لنا اشكالاً تكفي لأن نهرب منهم و نتجه لطرابلس فرارا على الأقدام.

الصورة المرفقة لثلاثة من رفاقي من امام كوخنا في اوزو.


يرويها أحمد (46 سنة) - المملكة المتحدة

ملاحظة
- نشرت تلك القصص وصنفت على أنها واقعية على ذمة من يرويها دون تحمل أية مسؤولية عن صحة أو دقة وقائعها. 

للإطلاع على أسباب نشر تلك التجارب وحول أسلوب المناقشة البناءة إقرأ هنا.

هناك 5 تعليقات:

  1. افتقدنا الموقع ومواضيعه

    ردحذف
  2. حمداً لله ع سلامتگم ، ان شاء الله يعود الموقع بمواضيعه المتنوعه والشيقه

    ردحذف
  3. انا ليبي ومن وكنت من ضمن قوة المهام الخاصة التي قامة بعمليات قتالية سريعة في اوزو التشادية سنة1989 كثيرا ما سمعت بمثل هده القصص الغريبة في تلك المنطقة ولكني لم اواجه حالة مشابهة ابدا والحقيقة ان تلك المناطق مقفرة ومرعبة خاصة جبال اوزو السوداء الشامخة ... انا اصدقك اخي الراوي وايضا اعجبت بطريقة ردك الرائعة لتجربتك

    ردحذف
  4. احس ان الموقع اندثر لانه توقف عن نشر التجارب للاسف وانا متابعه له منذ سنة 2014

    ردحذف
  5. فاتن - المغرب19 مايو 2021 في 6:59 م

    قصة أجمل ما فيها أنك تلمس الصدق في وقائعها. إستمتعت كثيرا بقرأتها و تخيل أحداثها كما يرويها صاحبها خاصتا في تلك الحقبة من الزمن التي كانت تزخر بمثل هذه الأحداث و الوقائع الغريبة.

    ردحذف