28 يوليو 2025

صنعتُها فاستحوذت عليّ

عندما تصنع خيالاً فيصبح كابوساً عليك
ترويها أحمد (22 سنة) -  الأردن

أعيش اليوم في صراع داخلي لم أجد له تفسيراً واضحاً،  قد يراه البعض مشكلة نفسية، وقد يراه آخرون شيئاً يتجاوز الإدراك المادي. ولهذا قررت أن أشارك قصتي هنا، علّي أجد من يمدّني برأي مختلف، أو يفسر لي ما أعجز عن تفسيره.

كل شيء بدأ عندما كنت في العاشرة من عمري ، انتقلت مع عائلتي من الأردن إلى السعودية. كان ذلك الانتقال صعباً عليّ، إذ تركت خلفي مدرستي وأصدقائي وكل ما كنت ألفّه. في غمرة هذا الحزن، بدأت أخلق في مخيلتي شخصية وهمية: فتاة في مثل عمري، كانت ترافقني فقط قبل النوم، كأنني أروي لنفسي قصة. لم أكن أعيرها الكثير من الانتباه في البداية، فهي لم تؤثر على حياتي، بل كانت مجرد خيال يساعدني على النوم.

لكن شيئاً غريباً حدث... تلك الفتاة لم تختفِ.

كبرتُ، وكبرت هي معي. تطورت شخصيتها، صارت تفكر وتتصرف بشكل مختلف تماماً عني. صارت لها حياة مستقلة، وأحداث تقع لها دون أن أختلقها أو أتحكم بها، وكأنني أشاهد فيلماً لم أكتبه أنا. كانت تحزن وتفرح، تخطئ وتصيب، تواجه مشكلات لا أعرف مصدرها، وأحياناً لا أفهم دوافعها حتى.

كنت أظن أنها مرحلة عابرة، جزء من المراهقة، وستنتهي حين أعود إلى الأردن للدراسة الجامعية. لكنها استمرت. بل أصبحت أكثر حضوراً في حياتي، حتى شعرت أنها تعيش معي، كأنها قرينتي. في بعض الليالي، كنت أتخيلها نائمة بجانبي.

تخرجت، عملت، تزوجت... لكنها بقيت. لم تختفِ. بل بدأت تؤثر على سلوكياتي. غيرت طريقة لبسي، تسريحة شعري، أسلوبي... كل شيء صار يشبهها. ومع الوقت، بدأت أشعر أنني أتحول إليها.

بلغ الأمر حداً مقلقاً: أستيقظ أحياناً من النوم معتقدة أنني هي، أتصرف وكأنني أعيش حياتها، ولا أعود إلى واقعي إلا عندما أرى نفسي في المرآة ، وإذا أصابها مكروه في قصتها، أشعر بالحزن العميق وكأنني أنا من يعاني ، أمرض حين تمرض، وأبكي حين تبكي. لم أعد قادرة على الفصل بين واقعي وخيالي.

لم أخبر أحداً بما يحدث سوى أخي،  لكن ذلك لا يكفي، أنا بحاجة إلى تفسير، حتى وإن بدا غير منطق ،  هل ما أعيشه هو مجرد اضطراب نفسي ؟ هل هي ظاهرة روحية ؟ هل خلقت لنفسي ظلاً بات يرفض أن يغادرني ؟

أطرح تجربتي أمامكم علّني أجد ما ينير لي الطريق.


ترويها نور (22 سنة) - الأردن


التفسير النفسي

في علم النفس، ما تصفه نور يندرج تحت طيف من الظواهر يُعرف بـ:

1- التعرض المفرط للخيال Fantasy Proneness

وهو ميل عميق لدى بعض الأفراد  -  خصوصاً الأطفال أو من عانوا من العزلة أو الصدمات - للعيش في عوالم خيالية غنية وتفصيلية، تصل أحياناً لدرجة أن هذه العوالم تتداخل مع الواقع.

2- الذات الموازية Alter Ego 

عندما يُمنح الكائن المتخيل مشاعر، واسم، وتطور، وتصرفات لا يتحكم فيها الوعي الواعي للفرد، يمكن أن يتحول إلى ما يشبه "شخصية ثانوية"، وهذا قريب من حالات انفصام الشخصية Dissociative Identity Disorder، وإن لم يكن مرضياً دائماً ، النقطة الجوهرية هنا: المخ يتعامل مع التصورات القوية المتكررة وكأنها "واقع مدرَك"، خصوصاً إن تم شحنها يومياً بمشاعر، واهتمام، وتفكير، وسرد زمني.

3- الاستحواذ الذاتي النفسي

يحدث عندما يبدأ الفرد بتقمص صفات الكائن المتخيل لدرجة يصبح فيها من الصعب التمييز بين "من أنا؟" و"من هو هو؟"، وتتحول الشخصية الخيالية إلى مرآة يُعاد فيها تشكيل الواقع.

التفسير الماورائي

في الماورائيات، هناك مفهوم مثير يسمى: تولبا Tulpa وهو مصطلح مأخوذ من البوذية التبتية، يُشير إلى كائن يتم خلقه بالإرادة والتركيز الذهني، ثم يتطور تدريجياً ليصبح كياناً منفصلاً عن صاحبه، يمتلك إدراكاً ووعياً خاصاً ، يقول بعض الممارسين الروحيين أن "التولبا" يمكن أن: يشعر بذاته، يتحدث، يرفض أوامر صانعه، بل وقد يسيطر عليه أحياناً إن ضعفت إرادته.

وهناك أيضاً فكرة "القرين" أو "الكيان الطاقي" وهي منتشرة في التصوف الإسلامي والعديد من الثقافات، حيث يقال إن الإنسان يمكنه بقوة التفكير والشعور استحضار كيان غير مرئي أو غير مادي يلازمه، وقد يتقاطع هذا الكيان مع الجان أو كيانات غير مفسرة.

هل يمكن للخيال أن يصبح كائناً واعياً ؟

نعم، في المستويين النفسي والماورائي، هناك احتمالية أن يتحول الكائن المتخيل إلى شبه "ذات" حية ، كيف يحدث ذلك ؟

- عبر التكرار اليومي: العقل يبني "شبكة عصبية" مستقرة لكائن خيالي.

- عبر الشحن الشعوري: كل مرة تبكي عليه، تتألم لأجله، تبرمج نفسك على أنه موجود.

- عبر العزلة والاعتماد عليه: يصبح صمام أمان نفسي، ثم يُطالب بـ"الوجود" أكثر فأكثر.

- عبر تقمصه: تغيير المظهر والسلوك هو استسلام تدريجي لسيطرته.

من يصنع من ؟

تمامًا كما يمكن لإنسان أن يصنع روبوتاً يملك ذكاء اصطناعياً ثم يخرج عن السيطرة، يمكن لعقل الإنسان أن يصنع وعياً موازياً من خياله... ثم يبدأ هذا الوعي بالتمدد والاستقلال ، وإن لم يتم احتواؤه، قد يرفض الواقع ويتحول إلى كائن  يستولي على القرارات والسلوك ويشكل تهديدا لهوية الفرد.

هل هذا مرض نفسي ؟

ليس بالضرورة. فالكثير من الكُتّاب والفنانين لديهم شخصيات خيالية قوية يعيشون بها. ولكن عندما تبدأ تلك الشخصيات بالسيطرة على الوعي والسلوك والهوية… تتحول إلى عبء ، وعندما يشعر الإنسان أن الواقع بات باهتاً مقارنة بعالمه المتخيل… تصبح هذه الحالة خطراً.

الخيال ليس مجرد هروب… بل قوة خلق.
وإذا لم تضبط هذه القوة، فقد تخلق شيئاً أكبر منك.


إعداد : كمال غزال


إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .