يعود بنا هذا الحدث الغريب إلى عام 1994، في منطقة "بئر علي" الواقعة جنوب تونس، وتحديداً إلى قصة رواها لي "حمادي" ابن حماي أو شقيق زوجتي الذي عمل حينها في مجال البناء وكان عائداً إلى قريته الواقعة على بعد حوالي 480 كيلومتراً من العاصمة.
بعد أن فوّت موعد الحافلة الصباحية، اضطر حمادي لانتظار حافلة المساء، التي غادرت في الرابعة مساءً وسط أمطار ورياح شديدة. رافقه في الرحلة ابن عمه وصديق طفولته "أبو القاسم"، المعروف بتدينه وهدوئه. وصلت الحافلة عند الساعة التاسعة مساء إلى معتمدية "بئر علي"، ومنها استقلا سيارة نقل ريفي أوصلتهما إلى أقرب نقطة يمكن منها الوصول إلى منازلهما سيراً على الأقدام.
تفرّق الصديقان عند مفترق طرق زراعي، حيث توجه أبو القاسم إلى مزرعة عائلته، بينما واصل حمادي طريقه وحده وسط الظلام الدامس والطين والبرك المائية، محاطاً بأشجار الزيتون والصبّار. وفجأة، سمع صوتاً أنثوياً مألوفاً يناديه باسمه من خلف الصبّار، كان الصوت صوت جدته !
دون تردّد، اتجه نحو مصدر الصوت، شاقاً طريقه بين الأشواك حتى رأى جدته فعلاً تقف خلف الشجيرات… لكنها كانت "نصف جسد فقط"، الجزء العلوي فقط من جسدها، دون ساقين، ومع ذلك تتحرك نحوه !
تجمّدت الدماء في عروقه، وأدرك فوراً أنه وقع في شرك كائن شيطاني متنكّر. بدأ يركض عائداً بأقصى ما يستطيع، مخترقاً الطين والأشواك، بينما تعالت خلفه أصوات ضحك هستيري وتصفيق وأقدام ضخمة كأنها حوافر خيل.
حين لاح نور منزله من بعيد، بدأت كلاب المزرعة - وهي خمس كلاب شرسة درّبها بنفسه - بالنباح والركض باتجاهه، لكنها لم تهتم له، بل ركضت خلف شيء ما كان يلاحقه… ثم اختفى فجأة !
خرج أفراد العائلة مذعورين على صوت الكلاب، ليجدوا حمادي في حالة يُرثى لها، مرتجفاً وملابسه ممزقة. وما زاد القصة غموضًا أن جدته كانت حينها في مدينة صفاقس تتعافى من عملية جراحية في عينيها، ولم تكن في المزرعة إطلاقاً.
في اليوم التالي، ذهب إخوة حمادي وأبناء عمومته إلى المكان مع الكلاب لجلب أغراضه التي تركها. وما إن اقتربوا من موقع الحادثة حتى هاجت الكلاب مرة أخرى وركضت نحو زاوية مهجورة، تنبح بجنون وكأن شيئًا ما لا يزال هناك، لكن لم يُرَ أي أثر.
ومنذ تلك الليلة، صار المكان يُعرف بين الأهالي باسم "مفرق الغول"، وصار حمادي حديث الجيران، والجميع يتجنّبون المرور من هناك بعد صلاة العشاء إلا في جماعة.
نقلت لكم تجربة "حمادي" كما سمعتها.
يرويها جمال (56 سنة) - ليبيا
تحليل التجربة
أولاً: البُعد الثقافي والديني
في التراث الشعبي التونسي والمغاربي، يُعتقد أن الجنّ يسكنون المناطق المهجورة، والحقول، والمزارع، خاصةً تلك التي يغيب عنها البشر ليلاً. وغالباً ما يُرتبط الجنّ بالتجسد على هيئة أقرباء أو بشر يعرفهم الضحية، لإغواءه أو إخافته.
تجسد الجدة: الجن في الموروث الشعبي لا يخلق صورة عشوائية، بل يتقمص هيئة شخص قريب من الضحية ليستدرجه. صوت الجدة وشكلها كان مدروساً ليكسر حاجز الخوف ويجعل "حمادي" يتقرب دون حذر.
ثانياً: البعد النفسي
الإنهاك الجسدي والعقلي
حمادي كان في حالة إرهاق شديد بعد رحلة طويلة وباردة وممطرة، ومعه أعباء جسدية (أمتعة) ونفسية (المسافة، الظلام، الوحدة). هذا النوع من الضغط قد يسبب هلوسات بصرية وسمعية، خاصة في بيئة محفزة كالمزارع المعتمة.
الإيحاء واللاشعور
قد يكون العقل الباطن اختلق صورة الجدة كرمز للأمان في لحظة ضعف، لكن تحوّل الرمز إلى تهديد يُفسَّر كصراع داخلي بين الحاجة للطمأنينة والشعور بالخطر.
وفي الختام .. قصة حمادي تجسد نموذجاً كلاسيكياً لما يُعرف بـ "اللقاء الشيطاني المتقمّص"، حيث يظهر الكيان الخفي على هيئة محبوبة لإحداث أقصى تأثير نفسي ممكن. وهي قصة تتكرر بمظاهر مختلفة في الكثير من الروايات الماورائية حول العالم، لكنها تأخذ طابعاً محلياً تونسياً هنا من حيث البيئة (المزارع، الصبّار)، الرموز (الجدة، الكلاب)، والتحولات الجسدية (نصف جسد).
إعداد : كمال غزال
ملاحظة
نشرت تلك القصص وصنفت على أنها واقعية على ذمة من ها دون تحمل أية مسؤولية عن صحة أو دقة وقائعها ، للإطلاع على أسباب نشر تلك التجارب وحول أسلوب المناقشة البناءة إقرأ هنا
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .