13 أبريل 2025

لقاء لم أفهمه حتى اليوم

ما سأرويه الآن ليس من نسج الخيال، بل تجربة شخصية ما زالت حيّة في ذاكرتي، رغم مرور أكثر من ربع قرن على حدوثها.

كان ذلك في صيف 1999 أو 2000، بعد أن قررت ترك كلية الآداب -  قسم علوم المسرح -  لأني لم أكن مهتماً بالدراسة فيها. كنت قد أنهيت الفصل الأول بنجاح، لكنني تجاهلت امتحانات الفصل الثاني، وأنهيت التجربة برغبة مني ومن عائلتي.


بناءً على رغبة والديّ وبعض أقاربي، قررت التقدّم لاختبارات الكلية الحربية، خاصة وأنها كانت تقبل خريجي الثانوية الجدد ومن سبقوهم بعام. كنت أمتلك الحلم القديم بأن أكون ضابطاً، مثل كثير من الأطفال، وقلت لنفسي: " لمَ لا؟ "

بدأت فعلاً أولى خطواتي، سحبت الاستمارات، ونجحت في أول اختبار، وكنت أتقدّم بشكل ممتاز. ولكي أكون قريباً من مقر الكلية، انتقلت مؤقتاً للإقامة في منزل خالتي بمصر الجديدة.

وفي أحد الأيام، كنت قادماً من وسط البلد وركبت ميني باص رقم 27 المتجه نحو مطار القاهرة، والذي يمر من أمام بيت خالتي. جلست خلف السائق مباشرةً بجانب النافذة اليسرى، وخلال الطريق تغيّر الراكب الجالس بجانبي أكثر من مرة، إلى أن صعد ذلك الرجل…

كان متوسط الطول، ذو لحية سوداء خفيفة، ويرتدي قميصاً وبنطالاً، ويضع نظارة. جلس إلى جانبي، حيّاني بابتسامة هادئة، وبادلته التحية.

بعد قليل، هممت بإشعال سيجارة كنت أحتفظ بها، رغم أنني وعدت نفسي بالتوقف عن التدخين لحين انتهاء الاختبارات. لكنه التفت إليّ وقال بابتسامة:

"هو انت نازل فين؟"

أجبته: "في شارع الحجاز."

قال بهدوء:

"طب إيه رأيك تستنى شوية وتشرب السيجارة براحتك أول ما تنزل؟ مش هقولك التدخين حرام، بس صدقني صحتك مهمة… أنا كنت بدخن أكتر منك وبطلت، الحمد لله."

أكمل حديثه بنبرة ودودة، وتحدث عن أضرار التدخين على الآخرين، ثم سألني عن دراستي، فأخبرته بأني أستعد لاختبارات الكلية الحربية. ضحك وقال:

"كمان؟!  طيب ربنا يوفقك، بس خليك دايمًا فاكر إن الطريق اللي ماشي فيه لازم تكون متأكد إنه ليك."

ثم عرفني على نفسه، قائلاً إنه اسمه محمد حسين، ويعمل مدير مشتريات في سوبرماركت شهير في ميدان المساحة بالدقي. وأعطاني بطاقة عمله، وقال بابتسامته التي لا تُنسى:

"شرفني في أي وقت، وطمّني عملت إيه في الحربية."

وصلت إلى وجهتي، صيدلية "صادق" في شارع النزهة، فودّعته ونزلت. لاحظت أنه انتقل ليجلس مكاني بجوار النافذة.

لكن… ما حدث بعد ذلك هو ما غيّر كل شيء.

عندما هممت بعبور الشارع نحو منزل خالتي، رأيته من جديد، أمامي مباشرة، ولكن هذه المرة يرتدي جلابية بيضاء، ويبتسم نفس الابتسامة الهادئة، ثم قال لي:

"السلام عليكم."

ارتبكت، ألقيت نظرة خاطفة إلى الخلف فرأيت الميني باص قد تحرّك، ويده ما زالت ظاهرة من النافذة !

كيف يكون هنا وهناك في اللحظة نفسها؟

أسرعت بالدخول إلى عمارة خالتي، لكن لم أجدهم، كانت ورقة معلقة على باب الشقة تخبرني أنهم خرجوا لدقائق فقط. لا أعرف لماذا، لكني شعرت بذعر غريب. نزلت مجددًا، ووقفت أمام كشك قريب أحتسي مشروبًا بارداً، وأشعلت سيجارتي الوحيدة، فقط لأهدئ أعصابي.

حين عادوا، أخبرتهم بالقصة… لكن كأنهم لم يصدقوا تماماً. لم يكذبوني، لكن بدا أنهم عاجزون عن الاستيعاب.

بعد أيام قليلة، قررت التوقف عن اختبارات الكلية الحربية وسحبت أوراقي… رغم أنني كنت أحرز تقدماً وكنت مدعوماً بوساطات. حتى اليوم لا أعلم لماذا فعلت ذلك فجأة. وكأن شيئاً داخلي انقلب.

حينها، تذكرت "محمد حسين"، الرجل الغريب، وقررت زيارته في السوبرماركت المذكور. توجهت إلى الدقي والكارت في يدي.

لكن الصدمة كانت هناك…

سألت عن اسمه، عن وصفه، عن أي موظف يشبهه… لا أحد يعرفه. العاملون أكدوا أن الكارت هو من كروت المتجر فعلاً، لكنه لا يعود لأي موظف لديهم. والأسوأ أن رقم الهاتف المدون عليه غير موجود بالخدمة.

عدت إلى البيت، احتفظت بالكارت في غرفتي… ثم اختفى فجأة بعد أيام، دون أن أجده مرة أخرى.

من كان هذا الرجل ؟ هل كان ملاكاً ؟ أم جنّياً مسلماً صالحاً ؟ لا أعتقد أنه إنسان عادي. حضوره، كلامه، توقيت ظهوره، واختفاؤه، كل شيء كان خارج المنطق.


يرويها ميدو (45 سنة) - مصر



ملاحظة

 نشرت تلك القصص وصنفت على أنها واقعية على ذمة من ها دون تحمل أية مسؤولية عن صحة أو دقة وقائعها ،  للإطلاع على أسباب نشر تلك التجارب وحول أسلوب المناقشة البناءة إقرأ هنا


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .