7 أبريل 2025

شبح عالق بين الأنقاض

أود أن أشارككم تجربة غريبة حدثت لصديقي وزميلي في العمل، خالد، البالغ من العمر 50 عاماً، والذي أعتبره أخاً لي وأثق به تماماً ، يمتلك خالد شقة في الطابق الثاني داخل عمارة سكنية مكوّنة من أربعة طوابق.

بدأت الأحداث الغريبة بعد انتهاء الاشتباكات العنيفة بين المجموعات المسلحة في جنوب طرابلس. خلفت هذه الاشتباكات دماراً كبيراً في المنطقة، مع انقطاع التيار الكهربائي والمياه، وتضرر الطرق، مما أدى إلى نزوح معظم السكان، وبقاء المنطقة مهجورة لمدة تقارب أربعة أشهر.

لم تتعرض شقة خالد لدمار كبير، لكنها أصيبت ببعض القذائف الصغيرة، وتسببت إحداها في حريق طال معظم الشقة. قرر خالد ترميمها، واستعان بعدد من العمال المصريين: سبّاك، كهربائي، وثلاثة أسطوات للدهان والتبييض (نقاشين).

نظراً للوضع الأمني الهش بعد توقف القتال مباشرة، كان خالد يضطر إلى نقل العمال بسيارته من طرابلس إلى منطقة خلة الفرجان يومياً، حفاظاً على سلامتهم. وبعد أيام من هذا الروتين، طلب العمال من خالد أن يبيتوا في الشقة، لكي يستطيعوا العمل ليلاً ونهاراً. وبعد تردد، وافق خالد، بشرط أن يزورهم يومياً ويجلب لهم الطعام والماء.

بدأ العمال فعلاً في العمل، خاصةً مع بدء عودة عدد قليل من السكان بشكل جزئي. وفي أحد الأيام، اضطر الأسطى السباك أن يصعد إلى سطح العمارة لتركيب ماسورة التهوية الخاصة بالصرف الصحي. كانت الساعة حوالي الحادية عشرة صباحاً، والمنطقة ما تزال ساكنة ومهجورة تقريباً.

عندما صعد العامل إلى السطح، تفاجأ بوجود امرأة تنشر الغسيل على حبل. ارتبك العامل وتراجع احتشاماً، ثم نزل إلى الشقة دون أن يُكمل عمله. سأله زميله عن سبب عدم تركيب الماسورة، فأخبره عن المرأة التي رآها.

استغربوا جميعاً، لأنهم كانوا يعتقدون أن العمارة خالية من السكان. في اليوم التالي، جاء خالد كعادته، فذكروا له أمر المرأة، وقالوا إنهم لن يكملوا العمل على السطح قبل أن يتأكد خالد من أنها جارته أو يستأذنها.

صعد خالد مع العامل الذي رأى المرأة، لكنهم لم يجدوا شيئاً. لا يوجد حبل غسيل، ولا امرأة، ولا أي أثر يدل على وجود أحد. ضحك خالد ساخراً وقال للعامل: "يبدو أنك تخيّلت الأمر". لكن العامل أصر على ما رآه بعينه.

بسبب إلحاحه، نزل خالد مع العمال وبدأوا في تفتيش الشقق الأخرى في العمارة  - وكانت أغلبها مفتوحة بسبب القصف -  لكنهم لم يجدوا أي أحد. انتهى الأمر وظنّ الجميع أن الموضوع كان مجرد وهم أو خيال.

مرّ يومان دون حدوث شيء. وفي إحدى الليالي، وبينما كان العمال ينهون عملهم قرابة العاشرة والنصف ليلاً، وبدأوا بالاستلقاء للراحة استعداداً لليوم التالي، حدث شيء لا يُصدّق.

فجأةً، تحوّل الهدوء التام إلى أصوات قصف واشتباكات بكل أنواع الأسلحة، مع صراخ وعويل لنساء وأطفال، وأصوات سيارات إسعاف. انبطح العمال أرضاً معتقدين أن المعركة عادت. حاولوا النظر من فتحات البلكونة التي كانوا ينامون فيها، وكانت الأصوات فعلاً مرعبة وواضحة، لكن لم يكونوا يرون شيئاً: لا انفجارات، لا طلقات، لا سيارات، لا بشر.

استمر هذا الوضع حوالي خمس دقائق، ثم عاد الهدوء فجأة، وساد الظلام التام من جديد، دون أي أثر لبشر.

اتصل العمال فوراً بخالد، وطلبوا منه أن يأتي ويُخرجهم فوراً. في اليوم التالي، حضر خالد، وأخبروه بما حصل. فأكد لهم أنه لم تقع أي اشتباكات منذ أيام، بل استفسر من أصدقائه في الكتائب الأمنية، وأخبروه أن المنطقة ما تزال خالية، ولم يحدث أي إطلاق نار.

طمأنهم خالد وطلب منهم أن يُكملوا العمل، وأنه سيبقى معهم حتى العصر، ثم يعيدهم إلى طرابلس كالسابق. وافقوا على مضض.

عند الساعة الثالثة ظهراً، نزل خالد إلى سيارته ليجلب علبة سجائره. أثناء صعوده للدرج من الطابق الأول، تقابل وجهاً لوجه مع امرأة كانت تنزل. نفس الوصف الذي قاله العامل: نفس الملامح، نفس الهيئة. مرت بجانبه دون أن تتحدث، وكأنها لم تره.

أصيب خالد بالرعب، وأسرع إلى الأعلى، وطلب من العمال أن ينزلوا فوراً للبحث عنها. فتشوا كل زوايا العمارة، ولم يجدوا لها أي أثر، لا آثار أقدام، ولا حبل نشّافة، ولا شيء.

حينها طلب خالد من العمال أن يوقفوا أعمال الصيانة مؤقتاً، إلى حين عودة السكان للمنطقة.

وهذه القصة حقيقية، على لسان صديقي وزميلي خالد، وقد رواها لي بكل تفاصيلها.


يرويها سعيد (60 سنة) - ليبيا


فرضيات التفسير 

أ) - تفسيرات ماورائية 

ما رواه سعيد عبد الله عن تجربة صديقه خالد والعمال المصريين، يندرج ضمن ما يُعرف في الموروث الشعبي والماورائيات باسم "أشباح الحرب" أو "أطياف الفجيعة". وهي حالات شبيهة بالسكنى الروحية، تظهر غالباً في أماكن شهدت أحداثاً مأساوية مثل القصف، أو المجازر، أو الوفاة المفاجئة بسبب العنف، كما هو الحال في كثير من المناطق التي عايشت الحرب الأهلية أو اشتباكات الميليشيات.

في كثير من الثقافات، يُعتقد أن بعض الأرواح لا تغادر المكان الذي ماتت فيه بشكل مأساوي، بل "تعلق" فيه، إما بسبب الظلم الذي وقع عليها، أو بسبب عدم اكتمال طقوس الرحيل أو الدفن، أو نتيجة صدمة مفاجئة جعلت الروح حبيسة الزمان والمكان. هذه الأرواح، وفق المرويات، قد تعيد تكرار اللحظة التي قضت فيها مرارًا، كأنها تعيش في حلقة زمنية مغلقة لا تنكسر.

الصوت الجماعي الذي سمعه العمال – من قصف وصراخ وطلقات – دون وجود أي مظهر مادي في الخارج، قد يكون انعكاساً لما يُعرف بـ السُكني المقيمة Residual Haunting، وهي ظاهرة معروفة في علم الماورائيات، حيث يُقال إن الأرض أو الجدران "تمتص" الصدمة، وتعيد بثّها كصدى يتكرر في ظروف معينة، خاصة في أوقات السكون أو الليل، أو عند وجود أشخاص غرباء في المكان لأول مرة بعد المأساة.

أما المرأة الغامضة التي شوهدت على السطح، ثم داخل السلالم، دون أثر أو تفاعل، فقد تكون شكلاً من أشكال الظهور الطيفي المرتبط بشخص ربما لقي حتفه في العمارة أو حولها. في أغلب تقارير الرؤية الطيفية، لا تتفاعل هذه الكيانات مع من يشاهدها، بل تمشي أو تؤدي حركات مألوفة (مثل نشر الغسيل) وكأنها تتابع حياةً لم تعد موجودة.

هذا النوع من الظواهر ليس نادراً في المناطق الخارجة من الحرب، وقد وردت مئات الشهادات المشابهة في غزة ، سوريا، العراق، رواندا، البوسنة، وحتى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

ومع أن هذه القصص قد تثير الشكوك أو تُفسَّر على أنها أوهام جماعية أو ضغوط نفسية، فإن تكرارها في سياقات مختلفة ومن شهود متعددين يجعلها مثيرة للتأمل... وربما الخوف.


ب) تفسيرات نفسية سلوكية


1-  الهستيريا الجماعية Mass Hysteria

ويسمونها أحياناً بـ "العدوى النفسية" Psychogenic Illness، وهي حالة تنتشر فيها الأعراض النفسية أو الجسدية بين مجموعة من الناس، دون سبب عضوي واضح، وغالباً ما تحدث في أوساط مغلقة أو تحت ضغوط نفسية متشابهة.

في حالة العمال، وجودهم في منطقة مدمرة، معزولة، بعد تجربة عنف جماعي، قد يكون قد جعل عقولهم في حالة تأهب مفرط، مما يجعل أصغر صوت أو ظل يُفسَّر على أنه خطر أو كيان خارق.


2- البقايا الإدراكية Residual Perception

وهي فكرة أن الدماغ يحتفظ بصور ومواقف وأصوات عاشها من قبل، أو شاهدها في الإعلام، ويستدعيها كاستجابة لاواعية عند وجوده في بيئة مشابهة.

بمعنى آخر، العمال ربما شاهدوا أو سمعوا روايات عن رعب الحرب، فعندما وجدوا أنفسهم في مكان مهجور، سكنه الصمت والخراب، بدأ الدماغ في "ملء الفراغ" بما يتوقعه.


3- اضطراب ما بعد الصدمة  PTSD

الأشخاص الذين مرّوا أو اقتربوا من مناطق نزاع قد يعانون من ومضات من الذكريات Flashbacks أو حالات هلع عند التعرض لمحفّزات تُذكّرهم بالحرب مثل الأصوات أو حتى الصمت التام.

قد لا يكون جميع العمال مصابين بالـ PTSD، لكن وجودهم في بيئة تعيد تذكيرهم بمواقف مرعبة سابقة يمكن أن يُفعّل هذا النوع من التفاعل العصبي.


4-  الحرمان الحسي والعزلة Sensory Deprivation

في البيئات المعزولة والمنكوبة، ومع غياب الضجيج البشري المعتاد، يمكن للعقل البشري أن يخلق هلوسات سمعية أو بصرية لتعويض الفراغ الحسي وهو ما يُفسر أحياناً رؤيتهم لامرأة تنشر الغسيل أو سماع أصوات معارك في منطقة خالية تمامًا من السكان.


5 - "عقلية المكان" The Genius Loci Hypothesis

بعض علماء الأنثروبولوجيا يؤمنون بأن للمكان "شخصية نفسية" تنشأ بفعل التراكمات الاجتماعية والتاريخية، وأن الناس يتفاعلون نفسياً مع هذه الشخصية، خاصة إذا كان المكان مشبعاً بالموت أو المعاناة.

إعداد:  كمال غزال

 

ملاحظة

 نشرت تلك القصص وصنفت على أنها واقعية على ذمة من ها دون تحمل أية مسؤولية عن صحة أو دقة وقائعها ،  للإطلاع على أسباب نشر تلك التجارب وحول أسلوب المناقشة البناءة إقرأ هنا


إقرأ أيضاً ...

- العلم والماورائيات : هل يمكنك أن تثق بعقلك ؟ 

- الهستيريا الجماعية 

- فرضية المسجل الحجري وظاهرة السُكنى المقيمة 

- تجارب واقعية :  شبح سند الراجمة

- تجارب واقعية : أصوات مجهولة من ذاكرة الحرب

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .